فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وإذن فلا التفات إلى الخيل، وما يتصل بها.. ولا التفات إلى الناس، وإلى ما قد يقع عليهم من ظلم، فيما يقيم به دعائم الملك، من قلاع، وحصون، وقصور!.
فالريح تنقله إلى حيث يشاء، بلا خدم، ولا حشم، ولا حرس.
والجن.
{يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ}!!
وبهذا خرج سليمان من سلطان هذا الملك الذي يفتن به الملوك، وقام على ملك لا تخلص إليه منه فتنة..!! أو بمعنى آخر، لقد صفّى ملكه من تلك الشوائب التي تجىء منها الفتن، بما وضع اللّه سبحانه وتعالى في يديه من قوّى يستغنى بها عما يكلف به الملوك رعاياهم، وما يحملونهم عليه من أمور، يحققون بها أبّهة سلطانهم، ويقيمون عليها عظمة ملكهم، فيكون الظلم والقهر والاستبداد.
هذه هي قصة سليمان، على هذا التأويل الذي تأولنا عليه آيات اللّه، التي عرضت لهذه القصة.. وهو تأويل، نرجو أن يكون- بتوفيق اللّه- أقرب إلى الصواب، وأدنى إلى موقع الحق.. فإننا لم نر أحدا من المفسرين- فيما بين أيدينا من أمهات كتب التفسير- قد تأول الآيات هذا التأويل، وأقامها على هذا الوجه.
وإنه لا بأس من أن نعرض هنا بعضا من وجوه التأويل التي ذهب إليها المفسرون، حتى ينكشف وجه الخلاف، ويكون للناظر في تفسيرنا هذا أن يأخذ به، أو يأخذ ما يشاء من تلك المقولات:
فأولا: يذهب أكثر المفسرين لقوله تعالى: {حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ} يذهبون إلى أن الضمير في {توارت} يعود إلى الشمس، وأن سليمان عليه السلام، شغل باستعراض الخيل، حتى توارت الشمس في مغربها.. فلما غربت الشمس تنبه إلى أن وقت الصلاة قد فاته، فوقع في نفسه الندم على هذا التفريط في جنب اللّه، وقال ناعيا على نفسه هذا الذي كان منه: {إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ}!! ثم يختلف المفسّرون بعد هذا فى: هل كانت هذه الخيل خيل زينة، فيكون سليمان بهذا مقصرا في حق اللّه؟ أم أنها كانت خيلا يعدّها للجهاد في سبيل اللّه، فلا يكون ذلك محل لوم، كما حدث للمسلمين يوم أحد، حين فاتتهم صلاة العصر.
وثانيا: يذهب المفسرون لقوله تعالى: {رُدُّوها عَلَيَّ} إلى أن هذا أمر من سليمان إلى الشمس أن تعود من حيث غربت، فتظهر له على الأفق الغربي من جديد، حتى يؤدى الصلاة التي فاتته، في وقتها.
ثم يختلف المفسرون في هذا الأمر، وهل كان متجها به إلى اللّه، وأن ضمير الجمع للتعظيم، أم أنه أمر اتجه به إلى أعوانه وأتباعه كاللائم لهم أن لم ينبهوه إلى وقت الصلاة، وأن عليهم- وقد قصّروا- أن يعملوا المستحيل لإصلاح ما أفسدوا، وأن يعيدوا الشمس التي غربت!.
ولا يختلف المفسرون الذين يقولون بأن الضمير في ردوها يعود إلى الشمس- وهم جمهور المفسرين- لا يختلفون في أن الشمس قد ردّت إليه، فظلت على الأفق الغربي حتى أدى الصلاة في وقتها.
ومن المفسرين من ذهب إلى أن الشمس لم تردّ، وإنما حبست، عن أن تغرب، وقد لامست الأفق، فظلت في مكانها حتى أدى الصلاة.
ولهذا تأويلات وتعليلات أكثر من أن تحصر.
ثم إنهم يأتون لعودة الشمس من مغربها، أو إمساكها على الأفق بشواهد لمثل هذا الحدث، في زمن النبوة، وفى غير زمن النبوة تساق إليها كثير من الأحاديث والأخبار مسندة إلى ابن عباس وغيره من أعلام الصحابة.
وثالثا: يذهب المفسرون لقوله تعالى: {فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ} إلى أن سليمان بعد أن تنبه إلى مغيب الشمس، وطلب ردها إليه، اتجه إلى الخيل، وأخذ يضرب بالسيف في سوقها وأعناقها، ليكفّر بذلك عن خطيئته في اشتغاله بها حتى فاته وقت الصلاة.
فهذه الخيل هي التي شغلته، وهى التي يجب أن يتخلص منها، وأن يقدمها قربانا للّه يأكل من لحمها الفقراء والمساكين!.
ولم يسأل الآخذون بهذا الرأى أنفسهم: ما ذنب هذه الخيل حتى تلاقى هذا المصير، وهى في موضع الاحتفاء والتكريم؟.
ورابعا: اختلف المفسرون في تأويل قوله تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا}.
فمن قائل، إن سليمان قال لنفسه مرة: لأطوفنّ الليلة على سبعين امرأة من نسائى فيولد لى منهن سبعون ولدا يجاهدون في سبيل اللّه..!! قالوا، ولم يقل إن شاء اللّه، فلم تحمل من نسائه في تلك الليلة غير واحدة، والذي ولدته جاء مسخا، على صورة نصف إنسان، فلما ولد جاءت به القابلة، وسليمان على كرسى مملكته، فوضعته بين يديه!.
والقصة كما ترى- تفضح نفسها بهذا الخبال الصبيانى المريض..!
ومن قائل، إن سليمان دخل الحمام، وكان جنبا- ودائما النساء وما يتصل بالنساء!- فخلع خاتم الملك فأخذه الشيطان، ولبسه، وظهر في صورة سليمان، وجلس على كرسىّ المملكة، واتصل بنسائه، وسليمان ينادى في الناس معلنا أنه سليمان، فلا يصدّقه أحد، حتى زوجاته.. وقد ظل سليمان هكذا زمنا لا يجد مكانا يؤويه، أو لقمة عيش يتبلغ بها، وهو دائب التوبة والاستغفار؟؟؟ قالوا، وكان الشيطان قد خاف أن يقبل اللّه توبة سليمان، وأن يعيد إليه الملك، فأمسك بالخاتم ورمى به في البحر.
قالوا، ولما قبل اللّه توبة سليمان، وأراد ردّ ملكه إليه، دفع به إلى شاطىء البحر، فاصطاد سمكة فلما شقّ بطنها وجد خاتمه.. فلبسه، وعاد إلى ما كان عليه..!!
ثم تمضى القصة فتقول: إن سليمان أخذ هذا الشيطان فحبسه في قمقم، ثم ختم عليه بالرصاص وألقاه في البحر.. فهو في هذا القمقم إلى يوم الدين!.
وهذه القصة أيضا أكثر من سابقتها سخافة وسذاجة، وتناقضا، وفسادا، في كل حدث من أحداثها.
وهكذا تمضى الروايات حول تأويل هذا الجسد الذي ألقى على كرسى سليمان، وكلها من هذا العالم الخرافى، الذي لا مكان فيه للعقل، أو المنطق، إذ كل ما ينبت، في هذا العالم هو أطياف وأشباح، يموج بعضها في بعض، ويضرب بعضها وجه بعض!!. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَوَهَبْنَا لِداود سُلَيْمَانَ} جُعل التخلصُ إلى مناقب سليمان عليه السلام من جهة أنه من مِنن الله على داود عليه السلام، فكانت قصة سليمان كالتكملة لقصة داود.
ولم يكن لحال سليمان عليه السلام شَبه بحال محمد صلى الله عليه وسلم فلذلك جزمنا بأن لم يكن ذكر قصته هنا مِثالًا لحال محمد صلى الله عليه وسلم وبأنها إتمام لما أنعم الله به على داود إذ أعطاه سليمان ابنًا بهجةً له في حياته وورث ملكه بعد مماته، كما أنبأ عنه قوله تعالى: {ووهبنا لداود سُليمان} الآية.
ولهذه النكتة لم تفتتح قصة سليمان بعبارة: واذكر، كما افتتحت قصة داود ثم قصة أيوب، والقصص بعدها مفصَّلها ومجملها غير أنها لم تخل من مواضع إسوة وعبرة وتحذير على عادة القرآن من افتراض الإِرشاد.
ومن حسن المناسبة لذكر موهبة سليمان أنه ولد لداود من المرأة التي عوتب داود لأجل استنزال زوجها أوريا عنها كما تقدّم، فكانت موهبة سليمان لداود منها مكرمة عظيمة هي أثر مغفرة الله لداود تلك المخالفة التي يقتضي قدره تجنبها وإن كانت مباحة وتحققه لتعقيب الأخبار عن المغفرة له بقوله: {وإنَّ له عندنا لزلفى وحُسن مئَابٍ} [ص: 40] فقد رضي الله عنه فوهب له من تلك الزوجة نبيئًا ومَلِكًا عظيمًا.
فجملة {ووهبنا لداود سُليمانَ} عطف على جملة {إنا سخرنا الجبال معه} [ص: 18] وما بعدها من الجمل.
وجملة {نِعْمَ العَبْدُ} في موضع الحال من {سُلَيْمانَ} وهي ثناء عليه ومدح له من جملة من استحقوا عنوان العبد لله، وهو العنوان المقصود منه التقريب بالقرينة كما تقدم في قوله تعالى: {إلا عباد الله المخلصين أولئك لهم رزق معلوم} في سورة [الصافات: 40- 41].
والمخصوص بالمدح محذوف لدلالة ما تقدم عليه وهو قوله: {سُلَيْمان} والتقدير: نعم العبد سليمان.
وجملة {إنَّه أوَّابٌ} تعليل للثناء عليه ب {نِعْمَ العَبْدُ} والأوّاب: مبالغة في الآيب أي كثير الأوْب، أي الرجوع إلى الله بقرينة أنه مادحه.
والمراد من الأوب إلى الله: الأوب إلى أمره ونهيه، أي إذا حصل له ما يبعده عن ذلك تذكر فآب، أي فتاب، وتقدم ذلك آنفًا في ذكر داود.
{إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31)} يتعلق {إذْ عُرِضَ} ب {أوَّابٌ} [ص: 30].
وتعليق هذا الظرف ب {أوَّابٌ} تعليق تعليل لأن الظروف يراد منها التعليل كثيرًا لظهور أن ليس المراد أنه أوّاب في هذه القصة فقط لأن صيغة أوّاب تقتضي المبالغة.
والأصل منها الكثرة فتعين أن ذكر قصة من حوادث أوبته كان لأنها ينجَلي فيها عِظم أوبته.
والعَرض: الإِمرار والإِحضار أمام الرائِي، أي عرَض سُواس خيله إياها عليه.
والعَشيّ: من العصر إلى الغروب.
وتقدم في قوله: {بالغداة والعشي} في سورة [الأنعام: 52].
وذلك وقت افتقاد الخيل والماشية بعد رواحها من مراعيها ومراتعها.
وذكر العشي هنا ليس لمجرد التوقيت بل ليبنى عليه قوله: {حتَّى توارتْ بالحجابِ} فليس ذكر العشيّ في وقع هذه الآية كوقعه في قول عمرو بن كلثوم:
ملوك من بني جشم بن بكر ** يساقون العشيةَ يُقتلونا

و{الصافنات} وصف لموصوف محذوف استغنى عن ذكره لدلالة الصفة عليه لأن الصافن لا يكون إلا من الخيل والأفراس وهو الذي يقف على ثلاث قوائم وطرف حافر القائمة الرابعة لا يمكّن القائمة الرابعة من الأرض، وتلك من علامات خفته الدالة على كرم أصل الفرس وحسن خلاله، يقال: صفن الفرس صُفونًا، وأنشده ابن الأعربي والزجّاج في صفة فرس:
ألفَ الصُّفون فلا يزال كأنه ** مما يقوم على الثلاثثِ كَسيرا

{الجِياد} جمع جواد بفتح الواو وهو الفرس ذو الجَودة، أي النفاسة، وكان سليمان مولَعًا بالإِكثار من الخيل والفرسان، فكانت خيله تعد بالآلاف.
وأصل تركيب {أحْببتُ حبَّ الخيرِ} أحببتُ الخير حُبًّا، فحول التركيب إلى {أحببتُ حب الخيرِ} فصار {حُبَّ الخيرِ} تمييزًا لإِسناد نسبة المحبة إلى نفسه لغرض الإِجمال ثم التفصيل كقوله تعالى: {وفجرنا الأرض عيونًا} [القمر: 12] وقول كعب بن زهير:
أكرم بها خلة

وقولهم: لله دره فَارسًا.
وضمن {أحْبَبْتُ} معنى عَوَّضت، فعدِّي ب {عن} في قوله: {عن ذِكرِ ربي} فصار المعنى: أحببت الخير حبًّا فجاوزت ذكر ربي.
والمراد بذكر الرّب الصلاة، فلعلها صلاة كان رتبها لنفسه لأن وقت العشي ليست فيه صلاة مفروضة في شريعة موسى إلا المغرب.
و{الخير} المال النفيس كما في قوله تعالى: {إن ترك خيرًا} [البقرة: 180].
والخيل من المال النفيس.
وقال الفراء: الخير بالراء من أسماء الخيل.
والعرب تعاقب بين اللام والراء كما يقولون: انهملت العين وانهمرت.
وختل وختر إذا خدع.
وقلت: إن العرب من عادتهم التفاؤل ولهم بالخيل عناية عظيمة حتى وصفوا شياتها وزعموا دلالتها على بخت أو نحس فلعلهم سموها الخير تفاؤلًا لتتمحض للسعد والبخت.
وضمير {تَوارَتْ} للشمس بقرينة ذكر العشي وحرف الغاية ولفظ الحجاب، على أن الإِضمار للشمس في ذكر الأوقات كثير في كلامهم.
كما قال لبيد:
حتى إذا ألقتْ يدًا في كافر ** وأجنّ عَورات الثغور ظلامها

أي ألقت الشمس يدها في الظلمة، أي ألقت نفسها فهو من التعبير عن الذات ببعض أعضائها.
والتواري: الاختفاء، والحجاب: الستر في البيت الذي تحتجب وراءه المرأة وغيرها ومنه قول أنس بن مالك: فأنزل الله آية الحجاب.
والكلام تمثيل لحالة غروب الشمس بتواري المرأة وراء الحجاب وكل من أجزاء هذه التمثيلية مستعار؛ فللشمس استعيرت المرأة على طريقة المكنية، ولاختفائها عن الأنظار استعير التواري، ولأُفق غروب الشمس استعير الحجاب.
والمعنى: عرضت عليه خيله الصافنات الجياد فاشتغل بأحوالها حبًا فيها حتى غربت الشمس ففاتته صلاة كان يصليها في المساء قبل الغروب، فقال عقب عرض الخيل وقد انصرفت: إني أحببتُ الخيل فغفلت عن صلاتي لله.
وكلامه هذا خبر مستعمل في التحسر كقول أم مريم {رب إني وضعتها أنثى} [آل عمران: 36].
والخطاب في قوله: {رُدّوها عليَّ} لسواس خيله.
والضمير المنصوب عائد إلى الخيل بالقرينة، أي أرجعوا الخيل إليّ، وقيل: هو عائد إلى الشمس والخطاب للملائكة، وهذا في غاية البعد ولولا كثرة ذكره في كتب المفسرين لكان الأولى بنا عدم التعرض له.
وأحسن منه على هذا الاعتبار في معاد ضمير الغيبة أن يكون الأمر مستعملًا في التعجيز، أي هل تستطيعون أن تردوا الشمس بعد غروبها، كقول مهلهل:
يَا لَبَكْر انشروا لي كليبا

وقول الحارث الضبي أحد أصحاب الجمل:
رُدوا علينا شيخَنا ثم بَجل

يريد: عثمان بن عفان رضي الله عنه، فلا استبعاد في هذا المحمل.
والفاء في قوله: {فَطَفِقَ} تعقيبية، وطفق من أفعال الشروع، أي فشرع.
و{مَسْحًا} مصدر أقيم مقام الفعل، أي طفق يمسح مَسحًا.
وحرف التعريف في {بالسُّوققِ والأعناقِ} عوض عن المضاف إليه، أي بسوقها وأعناقها كقوله تعالى: {فإن الجنة هي المأوى} [النازعات: 41].